فصل: قال السمين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومرَّتْ خمسة عشر يومًا دون أن يُوحَى لرسول الله في ذلك شيء، حتى شق الأمر عليه، وفرح الكفار والمنافقون؛ لأنهم وجدوا على رسول الله مأخذًا فاهتبلوا هذه الفرصة لينددوا برسول الله، إنما أدب الله لرسوله فوق كل شيء ليبين لهم أن رسول الله لن يتكلم في هذه المسألة إلا بوحي من الله؛ لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يصدر عن رأيه.
ولو كان لهؤلاء القوم عقول لفهموا أن البُطْءَ في هذه المسألة دليلُ صِدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك جاءت قصة موسى هنا لتردَّ على مهاترات القوم، وتُبيِّن لهم أن النبي لا يعلم كل شيء، وهل المفروض فيه أن يجيبكم عن كل شيء؟ وهل يقدح في مكانته أنه لا يعرف مسألة ما؟
جاءت هذه الآيات لتقول لليهود ومَنْ لَفَّ لَفَّهم من كفار مكة: أنتم متعصبون لموسى وللتوراة ولليهودية، وهاهو موسى يتعلم ليس من الله، بل يتعلم من عبد مثله، ويسير تابعًا له طلبًا للعلم.
جاءت الآيات لتقول لهم: يا مَنْ لقنتم كفار مكة هذه الأسئلة وأظهرتم الشماتة بمحمد حينما أبطأ عليه الوحي، اعلموا أن إبطاء الوحي لتعلموا أن محمدًا لا يقول شيئًا من عند نفسه، فكان من الواجب أنْ تلفتكم هذه المسألة إلى صدق محمد وأمانته، وما هو على الغيب بضنين.
وسبب قصة موسى عليه السلام يُقال: إنه سأل الله وكان له دلال على ربه:
{رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] والذي أطمعه في هذا المطلب أن الله كلَّمه: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} [طه: 17] فأطال موسى الكلام مع ربه، ومَنْ الذي يكلمه الله ولا يطيل أمد الأُنْس بكلام الله؟ لذلك قال موسى: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18].
وهكذا أطال موسى مدة الأنس بالله والحديث معه سبحانه، لذلك سأله: يا ربّ، أيوجد في الأرض أعلم مني؟ فأجابه ربُّه تبارك وتعالى: نعم في الأرض مَنْ هو أعلم منك، فاذهب إلى مجمع البحرين، وهناك ستجد عبدًا من عبيدي هو أعلم منك، فأخذ موسى فتاه وذهب إلى مَجْمع البحرين.
وقد ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام خطب مرة فسُئِل: مَنْ أعلم؟ فقال: أنا يعني من البشر، فأخبره الله تعالى: لا بل في الأرض من هو أعلم منك من البشر حتى لا يغتَرَّ موسى عليه السلام بما أعلمه الله.
ثم يقول تعالى: {لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين} [الكهف: 60].
لا أبرح: أي لا أترك، والبعض يظن أن لا أبرح تعني: لا أترك مكاني الذي أنا فيه، لكنها تعني: لا أترك ما أنا بصدده، فإنْ كنتُ قاعدًا لا أترك القعود، وإنْ كنتُ ماشيًا لا أترك المشي، وقد قال موسى عليه السلام هذا القول وهو يبتغي بين البحرين، ويسير متجهًا إليه، فيكون المعنى: لا أترك السير إلى هذا المكان حتى أبلغ مجمع البحرين.
وقد وردت مادة برح في قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حتى يَأْذَنَ لي أبي} [يوسف: 80] قالها كبيرهم بعد أن أخذ يوسف أخاه بنيامين ومنعه من الذهاب معهم، فهنا استحى الأخ الأكبر من مواجهة أبيه الذي أخذ عليهم العهد والميثاق أنْ يأتوا به ويُعيدوه إليه.
و{مجْمَع البحرين} أي: موضع التقائهما، حيث يصيران بحرًا واحدًا، كما يلتقي مثلًا دجلة والفرات في شَطِّ العرب.
وقوله: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60].
الحُقُب: جمع حِقْبة، وهي الفترة الطويلة من الزمن، وقد قدَّروها بحوالي سبعين أو ثمانين سنة، فإذا كان أقل الجمع ثلاثة، فمعنى ذلك أن يسير موسى عليه السلام مائتين وعشرة سنين، على اعتبار أن الحِقْبة سبعون سنة.
ويكون المعنى: لا أترك السير إلى هذا المكان ولو سِرْتُ مائتين وعشرة سنين؛ لأن موسى عليه السلام كان مَشُوقًا إلى رؤية هذا الرجل الأعلم منه، كيف وهو النبي الرسول الذي أوحى الله إليه؛ لذلك أخبره ربه أن عِلْم هذا الرجل علم من لدنا، علم من الله لا من البشر.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا}.
{بَلَغَا} أي: موسى وفتاه {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} أي: مجمع البحرين {نَسِيَا حُوتَهُمَا} أي: حدث النسيان منهما معًا، وإنْ كان حمل الحوت منوطًا بفتى موسى وقد نسيه، فكان على موسى أنْ يُذكِّره به، فرئيس القوم لابد أن يتنبه لكل جزئية من جزئيات الرَّكْب، وكانت العادة أنْ يكون هو آخر المبارحين للمكان ليتفقده وينظر لعل واحدًا نسى شيئًا، إذن: كان على موسى أن يعقب ساعة قيامهم لمتابعة السير، ويُذكِّر فتاهُ بما معهم من لوازم الرحلة.
والحوت: نوع من السمك معروف، وفي بعض البلاد يُطلِقون على كل سمك حُوتًا، وقد أعدُّوه للأكل إذا جاعوا أثناء السير، وكان الفتى يحمله وهو مشوي في مكتل.
وقوله تعالى: {فاتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَبًا} [الكهف: 61] أي: خرج الحوت المشوي من المكتل، وتسرَّب نحو البحر، والسَّرَب: مثل النفق أو السرداب، أو هو المنحدر، كما نقول: تسرب الماء من القِرْبة مثلًا؛ ذلك لأن مستوى الماء في القِرْبة أعلى فيتسرَّب منها، وهذه من عجائب الآيات أن يقفز الحوت المشويّ، وتعود له الحياة، ويتوجّه نحو البحر؛ لأنه يعلم أن الماء مسكنه ومكانه.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ ءَاتِنَا غَدَاءَنَا}.
أي: جاوزا في سيرهما مجمع البحرين ومكان الموعد، قال موسى عليه السلام لفتاه: أحضر لنا الغداء فقد تعبنا من السفر، والنَّصَب: هو التعب.
فمعنى ذلك أنهما سارا حتى مجمع البحرين، ثم استراحا، فلما جاوزا هذا المكان بدا عليهما الإرهاق والتعب؛ لذلك طلب موسى الطعام. وهنا تذكَّر الفتى ما كان من نسيان الحوت.
{قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)}.
هذا كلام فتى موسى: أرأيت: أخبرني إِذْ لجأنا إلى الصخرة عند مَجْمع البحرين لنستريح {فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت} [الكهف: 63] ونلحظ أنه قال هنا {نَسِيتُ} وقال في الآية السابقة {نَسِيَا} [الكهف: 61] ذلك لأن الأولى إخبار من الله، والثانية كلام فتى موسى.
فكلام الله تبارك وتعالى يدلُّنا على أن رئيسًا متبوعًا لا يترك تابعه ليتصرف في كل شيء؛ لأن تابعه قد لا يهمه أمر المسير في شيء، وقد ينشغل ذِهْنه بأشياء أخرى تُنسِيه ما هو منُوط به من أمر الرحلة.
ثم يعتذر الفتى عما بَدَر منه من نسيان الحوت، ويقول: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] فالشيطان هو الذي لعب بأفكاره وخواطره حتى أنساه واجبه، وأنساه ذكْر الحوت.
وقوله تعالى: {واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَبًا} [الكهف: 63] أي: اتخذ الحوتُ طريقه في البحر عَجَبًا، في الآية السابقة قال: {سَرَبًا} [الكهف: 61] وهذه حال الحوت، وهنا يقول: {عَجَبًا} لأنه يحكي ما حدث ويتعجب منه، وكيف أن الحوت المشويّ تدبّ فيه الحياة حتى يقفز من المكتل، ويتجه صَوْبَ الماء، فهذا حقًا عجيبة من العجائب؛ لأنها خرجتْ عن المألوف.
ثم يقول الحق سبحانه: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ}.
أي: قال موسى عليه السلام {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف: 64] أي: نطلب، فهذا المكان الذي فُقِد فيه الحوت هو المكان المراد، فكأن الحوت كان أعلم بالموعد من موسى، وهكذا عُرف عنوان المكان، وهو مَجْمع البحرين، حتى يلتقي البحران فيصيران بحرًا واحدًا.
وهذه الصورة لا توجد إلاَّ في مسرح بني إسرائيل في سيناء. وهناك خليج العقبة وخليج السويس، ويلتقيان في بحر واحد عند رأس محمد.
ثم يقول تعالى: {فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64] أي: عادا على أثر الأقدام كما يفعل قَصَّاصُو الأثر، ومعنى: {قَصَصًا} [الكهف: 64] أي: بدقة إلى أنْ وصلاَ إلى المكان الذي تسرَّب فيه الحوت، وهو الموعد الذي ضربه الله تعالى لموسى- عليه السلام- حيث سيجد هناك العبد الصالح. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال السمين:

قوله: {وَإِذْ قَالَ موسى}: {إذ} منصوبٌ بـ: اذكر، أو وقتَ قال لفتاه جرى ما قَصَصْنا عليك مِنْ خبرِه.
قوله: {لا أَبْرَحُ} يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ ناقصةً فتحتاجَ إلى خبر. والثاني: أن تكونَ تامةً فلا تحتاج إليه. فإن كانَتِ الناقصةَ ففيها تخريجان، أحدُهما: أن يكونَ الخبرُ محذوفًا للدلالةِ عليه تقديرُه: لا أبرحُ أسيرُ حتى أبلغَ، إلا أنَّ حَذْفَ الخبرِ في هذا البابِ نَصَّ بعضُ النَّحْويين على أنه لا يجوزُ ولو بدليلٍ، إلا في ضرورة كقوله:
3177- لَهَفي عليكَ للِهْفَةٍ مِنْ خائفٍ ** يَبْغي جوارَك حينَ ليس مُجِيْرُ

أي: حين ليس في الدنيا مُجير. والثاني: أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه: لا يَبْرَحُ مسيري حتى أبلغَ، ثم حذف مسير وأقيمت الياء مُقامَه، فانقلبَتْ مرفوعةً مستترة بعد أن كانت مخفوضةَ المحلِّ بارزةً، وبقي {حتى أَبْلُغَ} على حالِه هو الخبر.
وقد خَلَطَ الزمخشريُّ هذين الوجهين فجَعَلَهما وجهًا واحدًا، ولكنْ في عبارةٍ حسنةٍ جدًا، فقال: فإن قلت {لا أبرح} إن كان بمعنى لا أَزُوْل مِنْ بَرِح المكانَ فقد دلَّ على الإِقامة لا على السفر. وإن كان بمعنى لا أزال فلابد من خبر. قلت: هي بمعنى لا أزال، وقد حُذِفَ الخبرُ لأنَّ الحالَ والكلامَ معًا يَدُلاَّن عليه: أمَّا الحالُ فلأنها كانت حالَ سَفَرٍ، وأمَّا الكلامُ فإنَّ قوله: {حتى أَبْلُغَ} غايةٌ مضروبةٌ تَسْتدعي ما هي غايةٌ له، فلابد أن يكون المعنى: لا أبرح أسير حتى أبلغَ. ووجهٌ آخرُ وهو أَنْ يكونَ المعنى: لا يبرح مسيري حتى أبلغَ على أنَّ {حتى أبلغَ} هو الخبرُ، فلمَّا حُذِفَ المضافُ أُقيم المضافُ إليه مُقامه وهو ضميرُ المتكلم، فانقلب الفعلُ مِنْ ضمير الغائبِ إلى لفظِ المتكلم وهو وجهٌ لطيفٌ.
قلت: وهذا على حُسْنِه فيه نظرٌ لا يخفى وهو: خلوُّ الجملةِ الواقعةِ خبرًا عن مسيري في الأصل مِنْ رابط يَرْبِطُها به. ألا ترى أنه ليس في قوله: {حتى أبلغ} ضميرٌ يعودُ على مَسيري إنما يعودُ على المضافِ إليه المستتر، ومِثْلُ ذلك لا يُكتفى به.
ويمكن أَنْ يُجابَ عنه: بانَّ العائدَ محذوفٌ، تقديرُه حتى أبلغَ به، أي: بمسيري.
وإن كانت التامةَ كان المعنى: لا أبرح ما أنا عليه، بمعنى ألزمُ المسيرَ والطَّلَبَ، ولا أفارقه ولا أتركه، حتى أبلغَ، كما تقول: لا أبرحُ المكانَ. قلت: فعلى هذا يُحتاجُ أيضًا إلى حَذْفِ مفعولٍ به كما تقدَّمَ تقريرُه، فالحذفُ لابد منه على تقديرَيْ التمامِ والنقصانِ في أحدِ وجهَيْ النقصان.
وقرأ العامَّة {مَجْمَعَ} بفتح الميمِ وهو مكانُ الاجتماع، وقيل: مصدر. وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسار بكسرها، وهو شاذ، لفتحِ عينِ مضارعِه.
قوله: {حُقُبا} منصوبٌ على الظرفِ وهو بمعنى الدهر. وقيل: ثمانون سنة. وقيل: سنةٌ واحدة بلغة قريش. وقيل: سبعون. وقرأ الحسن. {حُقْبًا} بإسكان القاف فيجوزُ أَنْ يكونَ تخفيفًا، وأن يكونَ لغةً مستقلة. ويُجمع على أَحْقاب كعُنُق وأَعْناق. وفي معناه الحِقْبَةُ بالكسر. قال امرؤ القيس:
3178- فإنْ تَنْأَ عنها حَقْبَةً لا تُلاقِها ** فإنَّك ممَّا أَحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ

والحُقْبَة بالضمِّ أيضًا. وتُجمع الأُولى على حِقَب بكسر الحاء كقِرَب، والثانيةُ على حُقَب بضمِّها كقُرَب. وقوله: {أو أَمْضِيَ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّه منسوقٌ على {أَبْلُغَ} يعني بأحد أمرين: إمَّا ببلوغِه المَجْمَعَ، أو بمضيِّه حُقُبًا. والثاني: أنه تَغْيِيَةٌ لقوله لا أَبْرَحُ، فيكون منصوبًا بإضمارِ، أَنْ بعد {أو} بمعنى إلى نحو لأَلْزَمَنَّكَ أو تقضيَني حقي.
قال الشيخ: فالمعنى: لا أبرحُ حتى أبلغَ مَجْمَعَ البحرَيْنِ، إلى أن اَمْضِيَ زمانًا أتيقَّنُ معه فواتَ مجمعِ البحرَيْن قلت: فيكونُ الفعلُ المنفيُّ قد غُيِّيَ بغايَتْين مكانًا وزمانًا، فلابد من حصولهِما معًا نحو: لأسيرَنَّ إلى بيتِك إلى الظهر فلابد من حصولِ الغايتين. والمعنى الذي ذكره الشيخُ يقتضي أنه يمضي زمانًا يتيقَّنُ فيه فواتَ مجمعِ البحرين.
وجَعَلَ أبو البقاء {أو} هنا بمعنى إلاَّ في أحدِ الوجهين، قال: والثاني: أنَّها بمعنى: إلا أَنْ اَمْضِيَ زمانًا أتيقَّنُ معه فواَ مجمعِ البحرين. وهذا الذي ذكره أبو البقاء معنىً صحيحٌ، فأخذ الشيخ هذا المعنى، رَكَّبه مع القولِ بأنها بمعنى إلى المقتضيةِ للغايةِ، فمِنْ ثَمَّ جاء الإِشكالُ.
{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)}.
قوله: {نَسِيَا} الظاهرُ نسبةُ النِّسْيانِ إلى موسى وفتاه، يعني نَسِيا تفقُّدَ أَمْرِه، فإنه كان علامةً لهما على ما يَطْلبانه. وقيل: نَسِي موسى أن يأمرَه بالإِتيانِ به ونسيَ يوشع أَنْ يفكِّرَه بأمرِه. وقيل: الناس يوشع فقط، وهو على حذفِ مضافٍ، أي: نَسِيَ أحدُهما كقولِه: {يَخْرُجُ منهما اللؤلؤُ والمَرْجان}.
قوله: {فِي البحر سَرَبًا} {سَرَبا} مفعولٌ ثانٍ لـ: {اتَّخذ}. و{في البحر} يجوز أن يتعلَّق ب {اتَّخَذَ}، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعولِ الأولِ أو الثاني.
والهاءُ في {سبيلَه} تعودُ على الحُوْت. وكذا المرفوع في {اتَّخَذَ}.
{فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)}.
قوله: {جَاوَزَا}: مفعولُه محذوفٌ، أي: جاوزا الموعدَ. وقيل: جاوزا مجمعَ البحرَيْن.
قوله: {هذا} إشارةٌ إلى السَّفََر الذي وقع بعد مجاوزتِهما المَوْعِدَ، أو مجمعَ البحرين. و{نَصَبا} هو المفعول ب {لَقِيْنا}. والعامَّةُ على فتح النون والصاد. وعبد الله بن عبيد بن عمير بضمِّهما. وهما لغتان من لغاتٍ أربعٍ في هذه اللفظة. كذا قال أبو الفضلِ الرازي في لوامحه.
قوله: {أَرَأَيْتَ}: قد تقدَّم الكلامُ فيها مُشْبعًا في الأنعام. وقال أبو الحسن الأخفش هنا فيها كلامًا حسنًا رأيت نَقْلَه وهو أنَّ العربَ اَخْرَجَتْها عن معناها بالكلية، فقالوا: أَرَأَيْتَك وأَرَيْتَكَ بحذفِ الهمزة إذا كانت بمعنى اَخْبِرْني، وإذا كانت بمعنى اَبْصَرْتَ لم تُحْذَفْ همزتُها. وشَذَّت أيضًا فألزَمْتَها الخطابَ على هذا المعنى، ولا تقولُ فيها أبدًا: أراني زيدًا عمرًا ما صَنَعَ وتقولُ هذا على معنى اعلَمْ. وشذَّتْ أيضًا فَأَخْرَجْتَها عن موضعِها بالكلية بدليلِ دخولِ الفاءِ ألا ترى قولَه: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي} فما دخلتِ الفاءُ إلا وقد اُخْرِجَتْ إلى معنى: أمَّا أو تنبَّهْ. والمعنى: أمَّا إذا أَوَيْنا إلى الصخرة فإنِّي نَسِيْتُ الحوتَ. وقد أَخْرَجْتَها أيضًا إلى معنى أخبرني كما قدَّمْنا. وإذا كانت بمعنى أخبِرْني فلابد بعدها من الاسمِ المستخبَرِ عنه، وتلزَمُ الجملةُ التي بعدها الاستفهامَ، وقد تَخْرُجُ لمعنى أمَّا، ويكون أبدًا بعدها الشرطُ وظروفُ الزمان، فقوله: {فإنِّي نَسِيْتُ} معناه: أمَّا إذ أَوَيْنا فإنِّي، أو تَنَبَّه إذ أوينا، وليستِ الفاءُ إلا جوابًا لأَرَأَيْتَ لأنَّ {إذْ} لا يَصِحُّ أَنْ يُجازي بها إلا مقرونةً بما بلا خلافٍ.